ابني فيصل أصبح في الصف الأول الابتدائي..
كنت قد اخترت له مدرسة أهلية بناء على العديد من العوامل.. منها سمعة المدرسة.. وقربها نسبياً من المنزل.. وقوة مُدرسّي الصف الأول..
وفيصل يحب المدرسة جداً.. كان قد درس المرحلة التمهيدية.. وتآلف مع جو المدرسة.. ولذلك فإن بداية العام الدراسي بالنسبة تعني له الكثير..
***
في الأسبوع التمهيدي والذي يتواجد فيه الآباء عادة مع أبنائهم.. عرفت أن المعلّم الذي أتينا لأجله قد تغيب لإجراء عملية جراحية.. وسيغيب الفصل الأول بأكمله.. شفاه الله وعافاه.. وبالتالي فقد كان هناك مُعلمَين اثنين للصف الأول.. أحدهما أربعيني.. لطيف مع الأولاد.. أما الآخر.. وهو ستيني على ما يبدو.. فعصبيته واضحة إلى حد أنه كان يعامل الأطفال بطريقة فجة في الأسبوع التمهيدي الذي يفترض أن يكون لتحبيب الأطفال في المدرسة..
وحينما انتهى الأسبوع التمهيدي وزعوا الأطفال على فصلين.. وكان من نصيب ابني أن يكون عند المعلّم الثاني.. المعلّم العصبي.. كما أنهم عند التوزيع وضعوا أغلب من يبدو عليه أنه مشاغب عند المعلّم الثاني..
أي أنه وبعد أن انتقيت له مدرسة توسمت أنها ممتازة.. كان نصيبه أن يكون في فصل له معلّم لا يطيق التعامل مع الأطفال.. ومع رفاق لا يفترض أن يكون معهم..
***
عزمت أن أذهب إلى المدرسة وأطلب نقل ابني من هذا الصف.. ولكن ابني بدا سعيداً جداً هناك.. وأحب المعلّم كثيراً.. فتريثت..
ولكن.. وبعد أسبوعين.. بدا ابني يشتكي.. يشتكي من الطلاب الذي يضايقونه.. ويشتكي من المعلّم الذي ضربه حتى الآن مرتين!..
حينها قررت أن أذهب وأطلب نقله..
***
دخلت على الوكيل الذي قابلني بترحاب زائد استغربت منه.. قلت له أنني أريد أن أنقل ابني من فصله.. سألني عن السبب فذكرت له أنه غير منسجم مع طلاب فصله.. ولسبب في نفسي لم أتكلم عن المعلّم لأنني توقعت أن موضوع الطلاب كاف بحد ذاته، ولأن المدرس قد يدرس ابني مرة أخرى ولا أريد أن أكسر علاقة ما منذ البداية..
أخذ الوكيل يسأل عن طبيعة المضايقة.. وقال أن من حقه أن يعرف كيف تسير الأمور في الفصول حتى يتجنبوا أي مشاكل قد تحدث مستقبلاً.. ثم خرج من مكتبه وعاد ومعه ابني.. أجلسه أمامه.. وبدأ معه جلسة تحقيق: “من الذي ضايقك يا ابني؟.. قول ولا تخاف..”..
كان ابني متفاجئاً من الموقف.. لأول مرة يكون في كرسي استجواب بهذا الشكل..
وبعد إلحاح من الوكيل.. نطق ابني باسم طالب.. سأله الوكيل ماذا فعل له هذا الطالب.. قال ابني أنه يقول كلاماً بذيئاً..
على الفور.. نهض الوكيل وأخذ معه فيصل.. وطلب مني أن أحضر معه.. وتوجه إلى الفصل..
توقعت أن يقوم الوكيل بسحب ذلك الطالب خارج الفصل.. ويواجهه مع فيصل.. ويحاول أن يحل الموضوع بطريقة معينة..
ولكن.. حصلت الأمور بطريقة مختلفة..
وصادمة!..
***
دخل الوكيل الفصل ومعه فيصل.. ووقفت أنا عند الباب..
وقف أمام الطلاب.. وتحول فجأة إلى وحش كاسر.. أخذ يصرخ في الطلاب يسأل عن اسم الطالب الذي نطق به ابني.. شعر الطلاب كلهم بخوف شديد.. بما فيهم الطالب المذكور الذي لم يدر ماذا يفعل من خوفه..
وكان لذلك الطالب أخ توأم يجلس بجانبه.. التفت الوكيل إلى أخيه وصرخ فيه طالباً أن يتقدم إليه.. وقال له: “أنت فلان؟”.. فأشار الطالب إلى أخيه.. فصرخ الوكيل في الأخ أن يتقدم أيضاً..
أخذ الوكيل عصا كبيرة تفاجأت بوجودها في الفصل.. ووقف أمام الطالبين التوأم.. وأخذ يصرخ فيهما بشكل غير معقول ومع كل صرخة يضرب بعصاه على الطاولة التي بجوارهما بقوة ليرهبهما ويرهب كل من بالفصل..
تطاير الكلام من فمه بشكل سريع وغاضب وهو يرمي بتهديدات غريبة عجيبة.. منها :”والله لو قربتوا على فيصل مرة ثانية راح أعطيكم ملفاتكم وأرميكم في الشارع”!..
الموضوع أصبح لا يطاق بالفعل.. وأنا مصدوم من هذا المشهد.. والتوأم يقفان في دهشة وأحدهما على وشك البكاء.. حينها تدخل المعلّم وأمرهما بأن يعودا إلى مكانهما.. وحينما عادا لحق بهما الوكيل ليعطيهما دُشّاً نارياً آخر..
ثم التفت الوكيل إلى بقية الطلاب وصرخ فيهم: “والله اللي راح يقرب على فيصل يا ويله”..
ثم خرج..
***
وقفت مذهولاً أمام ما حصل..
أخذت أتكلم مع عموم الطلاب محاولاً تهدئة الأمور.. ولكن المعلّم أخذ يتكلم معهم بنفس منطق الوكيل: “ما أحد يقرب على فيصل يا أولاد.. اللي حيقرب على فيصل يا ويله”!..
***
وعدني الوكيل بأنه سيتابع ابني شخصياً.. وأنه إذا استمر يشكو من فصله فسينقله إلى الفصل الآخر..
***
وخرجت من المدرسة وأنا غير مصدق أن يحصل هذا في مؤسسة تربوية تعليمية.. يفترض منها أن تخاطب الطلاب بما يناسبهم.. وأن تتعامل معهم بطرق تربوية أصيلة..
كان من الواضح أن غرض المدرسة هو إرضاء ولي الأمر.. الذي هو أنا في هذا الموقف.. وأنا على يقين من أن والد التوأم المذكور لو أتى في اليوم التالي فسيتلقى ابني عاصفة نارية معاكسة من الوكيل إرضاء لذلك الأب.. والضحية.. هم كل من بذلك الفصل.. سواء كان له دور أو كان متفرجاً على هذه المهزلة!
وبدل أن يتم نقل ابني إلى فصل آخر.. فقد قامت المدرسة مشكورة ذلك اليوم بزرع أول بذرة في ابني ليكون واشياً.. أنانياً.. ويكسب كراهية زملائه في الفصل..
والمشكلة الأكبر التي لم أكتشفها إلا لاحقاً.. هو اعتقاد ابني أن أباه أقوى من المدرسة.. وأن أي شكوى منه سيأتي والده ليصلح الأمور.. وبالتالي فقد لاحظت بعد ذلك الحادثة ضعف احترام ابني للمعلمين.. وأنهم مجرد أشخاص عاديين يمكن لوالده (السوبرمان) أن يمسحهم من الوجود بمجرد تشريفه للمدرسة..
كنت أنوي بالفعل أن أعود لأنقله من فصله.. أو لأنقله من مدرسته كلها بعد أن تفاجأت أن الهرم التعليمي عندهم مقلوب ومنخور.. ولكن بعد أن لاحظت هذا الاستهتار من ابني تجاه المعلمين توقفت عن ذلك.. حيث أن أي خطوة من هذا النوع ستدعم هذا الخلق السيء لديه.. وتعزز من قناعته بأن المعلّم ليس له أي قيمة.. والمدرسة ليس لها أي احترام.. مما قد ينعكس على مستقبل شخصيته في الاستهتار بأي كبير..
مأزق تربوي خطير.. أليس كذلك؟!