استيقظت باكراً جداً على غير العادة.. فاليوم هو يوم الأحد.. عطلة نهاية الأسبوع.. والتي تعتبر هي المغنم في النوم لتعويض كل ما فات من نوم يحتاجه جسدي خلال الأسبوع..
ولكن اليوم كان غير ذلك..
نهضت لوحدي.. فالكلّ نيام.. جهزت قهوتي وأفطرت وأنا أحاول ألا أثير أي ضجة في البيت قد توقظ زوجتي وأولادي في هذا الوقت الباكر..
تجهزت.. ثم خرجت بهدوء من المنزل..
* * *
الطريق كان هادئاً.. كالمنزل..
فمن ذا الذي سيخرج من بيته الساعة السابعة والنصف صباحاً يوم الأحد؟
كان الجو جميلاً.. معتدلاً.. فتحت النافذة لأستشعر هواء الصباح المنعش..
وبعد حوالي ربع الساعة.. وصلت إلى وجهتي..

* * *
كان موعد اللقاء ساحة مواقف أحد محلات التسوق الكبرى في مدينتنا..

وهناك.. وعلى عكس المدينة الهادئة النائمة.. كان قد بدأ تجمع بشري كبير نوعاً ما..
أوقفت سيارتي.. وترجلت.. لأنضم إليهم..
كان العدد يزيد على 100 شخص.. نساء ورجالاً..
من مختلف الأعمار.. أغلبهم بين الثلاثين والخمسين..
ومن خلفيات مختلفة.. سويديين.. أوروبيين.. شرق أوسطيين.. آسيويين..
ومن خلفيات مهنية مختلفة.. أطباء، ورجال شرطة.. ومهندسون.. وعمال بناء.. وغير ذلك..
ولكن.. كان يجمع بيننا رابط واحد.. وهو السبب في اجتماعنا في هذا الصباح الباكر في عطلة نهاية الأسبوع في مواقف مركز التسوق..
وهو أن أبناءنا يلعبون كرة القدم!
* * *
حسناً.. ما الحكاية؟
بداية تعرفي على هذا المبدأ.. وهو أن يعمل الآباء مقابل أن يلعب الأبناء في النوادي.. كانت حينما التحق ابني الأكبر بنادٍ لكرة السلة قبل سنوات..
حينها.. وصلتنا -نحن الآباء والأمهات- رسائل بأن علينا أن نعمل في أعمال مختلفة.. تدرّ على النادي دخلاً.. ليتمكن النادي من تسيير أموره ودفع تكاليفه..
حينها استغربت.. لماذا نعمل؟ خصوصاً وأن المبالغ التي سيحصلها النادي من عمل الآباء والأمهات ليست كبيرة.. وبإمكانه أن يطلب من الأهالي دفعها مباشرة..
وبعد سؤال.. وتحري.. عرفت السبب..
السبب هو المساواة بين جميع اللاعبين.. والأهالي.. سواء كانوا أغنياء أو فقراء.. حتى لا يشعر من أموره المادية سيئة، ولا يستطيع دفع هذه المبالغ، بأي دونية أو فرق.. وحتى لا يتسبب ذلك أيضاً بألا ينضم أبناء محدودي الدخل إلى النوادي.. لتكون النوادي لأبناء الميسورين فقط.
والحل.. هو العمل..
فقد لا يتمكن محدودي الدخل من المشاركة في الدفع وتحمل التكاليف.. ولكن لن يكون لديهم مانع بأن يعملوا في أعمال عادية.. مشاركة مع جميع الأهالي.
* * *
حينما كان ابني الأول في فريق السلة.. عملت حينها مع بقية الأهالي في عدة أعمال..
وأكثر الأعمال كان أن نستلم قسم استلام المعاطف -في الشتاء- في صالة المعارض الكبرى عندنا في المدينة.. حيث نقف بعد بوابة الدخول.. نستلم من كل زائر معطفه ونعلقه له عندنا، ونعيده إليه حينما يخرج، ويدفع مبلغاً رمزياً مقابل هذه الخدمة..

كان عملاً بسيطاً.. يمكن لأي أحد أن يقوم به.
ولكن.. أغرب عمل قمت به حينها.. -أو قمنا به نحن أهالي لاعبي كرة السلة-.. حينما عملنا كسيارات توصيل لمشروع غريب.. أسمع به لأول مرة.. يسعى لبناء علاقات اجتماعية بين الأزواج..
وهذه القصة.. تحتاج لتفصيل..
* * *
لم أسمع بهذا المشروع من قبل.. وتعرفت عليه حينما طلبوا منا أن نكون سائقي الأجرة.. أو التوصيل.. لهم.
هم عبارة عن مشروع بتنظيم بعض المهتمين به.. غير ربحي..
ويستهدف الأزواج.. سواء كان عندهم أبناء أم لم يكن.. ولكن المستهدف هو الرجل وشريكته.. وليس الأبناء.. وذلك لتكوين علاقات اجتماعية عائلية بين الأزواج، والأسر.
ويتم عمل هذا المشروع مرة واحدة في السنة..
الزوجان اللذان يريدان المشاركة في هذا المشروع، يرسلان طلباً للمنظمين عبر الإيميل.. قبل عدة أشهر.. ويتكلمان فيه عن نفسهما وحياتهما.. ويقوم المنظمين بدراستهم، ليقبلوهم معهم أو لا..
يقوم المنظمون بترتيب يوم الفعالية.. ليكون كالتالي..
تأتي سيارة لبيت أحد الأزواج المشاركين.. لتقلهما.. ثم تذهب السيارة لتقل زوجاً آخر.. وتأخذهم إلى منزل زوج ثالث..
ولا أحد من الأزواج المشاركين يعرف أي زوج آخر.. ولا يعرف الجدول.. ولا الوجهة..
يلتقي ثلاثة أزواج في منزل أحدهم.. لتكون هذه هي المرحلة الأولى.. يشربون القهوة. ويتعرفون على بعضهم البعض..
وطبعاً.. مثل هذه الأزواج الثلاثة.. هناك “ثلاثيات” أخرى تحدث في أرجاء المدينة في نفس الوقت.. وبتنظيم من المنظمين..
ثم تأتي سيارتين أو ثلاثة إلى هذا المنزل.. ليركب كل زوج في السيارة المخصصة له.. وتذهب كل سيارة إلى بيوت أخرى لتصطحب زوجاً آخر.. ليجتمع ثلاثة أزواج في منزل جديد.. لتناول العشاء هذه المرة..
ثم يتكرر نفس النظام بعد العشاء.. ليلتقي ثلاثة أزواج لتناول (الحلا) بعد العشاء.. في منزل جديد..
وفي كل مرة.. لا يتكرر الأزواج الثلاثة.. بل يقابل كل زوج زوجان جديدان..
وبعد ذلك كله.. يجتمع الجميع في مكان واحد.. ليسهروا معاً إلى ما بعد منتصف الليل..
ونحن.. أهالي اللاعبين.. كنا السائقين.. الذين نستلم الجداول من المنظمين.. ونقوم بتوصيل الأزواج حسب خطة دقيقة.. وفي أوقات محددة..
وينتهي عملنا حينما نوصلهم لآخر محطة.. التي يجتمعون فيها كلهم.. ولا نرتبط بهم بعد ذلك.
وبعدها بأيام.. وصلتنا جميعاً رسائل شكر.. لمساهمتنا في دعم نادي كرة السلة.. ودعم أنشطته..
* * *
عودة إلى صباح الأحد الماضي..
دخلنا مركز التسوق الكبير من باب خلفي.. استقبلنا أحد العاملين فيه.. وشرح لنا المهمة المطلوبة منا..
كان المطلوب عمل جرد شامل لمحتوى مركز التسوق.. -بالمناسبة.. مركز التسوق هذا أشبه بالهايبر ماركت، فيه كل شيء ما عدا الأطعمة-..
ثم قسمونا إلى مجموعات.. كل مجموعة من 15 شخصاً.. يتولى إدارتها موظف من عندهم..
ذهبت مع مجموعتي إلى أحد الجهات في مركز التسوق.. وزعتنا المسؤولة كل ثلاثة أشخاص في قسم صغير.. وشرحت لنا مباشرة كيفية الجرد..
ليبدأ العمل..
كان معي اثنان من الأهالي.. ضابطة في الجيش.. ورجل شرطة..
وبدأنا في الجرد.. كنا نعدّ كل الكمية الموجودة من كل صنف أمامنا ونسجله على أوراق. ونضعها عندها على الرف..
وكان من نصيبي قسم أدوات التجميل.. وصبغات الشعر!


عملنا لحوالي أربع ساعات.. عدنا خلالها إلى البوابات الخلفية لتناول وجبة خفيفة.. ثم غادرنا المكان..
في اليوم التالي.. وصلتنا رسالة شكر من النادي.. وأبلغونا أن النادي حصل على ما 9500 كرون سويدي مقابل عمل الأهالي صباح الأحد.. (أي ما يعادل 3300 ريال تقريباً، مقابل عمل 21 شخصاً من فريقنا، بقية العاملين كانوا أهالي من فرق أخرى)..

وأبلغونا أن هذا المبلغ سيذهب لدفع فواتير النادي.. ومكافآت الحكام عند إقامة المباريات.. وبعض الأمور التنظيمية..
* * *
حينما أحكي هذه الحكاية لأي شخص.. يستهجنها..
فالأسهل بالطبع أن يدفع الأهالي هذه المبالغ.. بدلاً من العمل لساعات هنا وهناك..
ولكن.. شخصياً.. وبعد تجربتي لسنوات..
أحببت هذا النظام.. على الدفع..
والسبب.. أنها تجربة اجتماعية ثرية.. ومختلفة..
ومناسبة للتعرف على أشخاص جدد..
ومجتمعات جديدة..
.
