RSS

Monthly Archives: أكتوبر 2016

أبو صائب معمر يعيش بثلثي رئة واحدة


هذا الحوار تم مع جدي محمد الحجي رحمه الله عام 2002، وكان وقتها قد تعدى عمره المئة عام.. أجرته الزميلة الصحفية غادة جوابرة.. ولم ينشر حينها..

 

وأنشره الآن..

مع كل الشكر للزميلة غادة جوابرة..

والدعاء بأن يتغمد الله جدي بواسع رحمته.. ويدخله الفردوس الأعلى من الجنة

 


 

أبو صائب معمر يعيش بثلثي رئة واحدة

scan0555

– تنبأ الطبيب بوفاتي بالسل خلال أسابيع، فمات الطبيب، وعشت أنا بعدها أكثر من ستين سنة!

– ثلاث من حفيداتي أصبحن جدات!

– ألقيت خطاباً ضد الاحتلال الفرنسي على ظهر سفينة فرنسية!

– حضرت موقعة ميسلون، ويوسف العظمة استشهد بشظية في رأسه.

 

حوار _ غادة الجوابرة

بدأ ( أبو صائب ) محمد محمود الحجي حياته في بلدة قارة السورية ، سنة 1900م ، وهو الآن في السنة الثانية بعد المائة ، قد لا يكون هذا الأمر استثنائيا ، و لكن ما يجعله كذلك أنه و اصل مسير ة حياته بعد أن بلغ عمره 38 سنة بثلثي رئة واحدة فقط ، إثر إصابته بداء السل ، الذي أجهز على رئته اليمنى و ثلث رئته اليسرى ، و بالرغم من أن الأطباء حينها أجمعوا على اقتراب أجله ، إلا أن الله سبحانه وتعالى أراد لحياته أن تطول ، و كان نوع الغذاء الذي تناوله الجد ( أبو صائب ) السبب الأبرز في تماثله للشفاء بعد عناية الله تعالى ـ و هو الآن جد لـ 257 حفيد..

عن حياته و ما حفل فيها من أحداث كان لنا معه اللقاء التالي :

 

* بماذا تحدثنا عن بداية حياتك ؟

– بدأت حياتي سنة 1900 م في بلدة (قارة) الواقعة شمال العاصمة السورية دمشق ، تلقيت العلم إلى الصف الثاني ابتدائي فقط ، لأن والدي طلب مني أن أرعى الغنم، كما أنني درست لمدة سنة عند الشيخ عبدالقادر قصاب في بلدة (دير عطية) المجاورة لقريتنا، ، و عندما بلغت 23 من عمري سافرت إلى الأرجنتين ، بقيت هناك ثماني سنوات ، تزوجت من ( أنيتا كومو ) عام 1927 م و هي فتاة أرجنتينية ، من أصل إيطالي و صار اسمها بيننا (أنيسة) ، كان عمري حينها 27 عاما بينما كان عمرها 16 عاما ، و أنجبت 12 ولدا ، ثلاثة منهم ولدوا في مدينة قرطبة ( Cordoba ) في الأرجنتين ، و عدت بعدها إلى سورية عام 1931 م إلى بلدتي قارة بثروة جيدة استطعت أن أؤمن معيشة جيدة من خلالها ، وأنجبت في بلدي 9 أولاد ، و أصبح اليوم عدد أحفادي 257 حفيدا من تسعة جدود، ( خمس نساء و أربع رجال )، ولي ثلاث حفيدات أصبحن جدات ، و في عام1970 م حججت مع زوجتي إلى بيت الله الحرام.

عملت في الزراعة ، و شكلت جمعية زراعية عام 1944 م ، و هي جمعية خيرية هدفها مساعدة أهل القرية في زراعة الأرض حيث كنا نقرض الفلاحين المال لحل أزماتهم على أن يسددوا ما اقترضوه بعد جني المحصول ، و قد أقامت الجمعية مطحنة آلية لطحن الحبوب كالقمح وغيره ، التي لا زالت إلى الآن موجودة في القرية ، و كان إحضار هذه المطحنة في يومها فتحا عظيما لأن الأهالي كانوا يعانون المشقة و المشاكل من المطاحن القديمة التي كانت تعمل على نهر الماء و كانت بطيئة جدا ، وكانت أكياس الحبوب المكدسة في المطحنة معرضة لتأثيرات ضارة كالرطوبة و الفئران وكان البديل عنها الذهاب إلى البلدات الأخرى كالنبك أو لبنان وكان في ذلك مشقة، و من ثم عُينت (مختارا) للبلدة مدة ستة عشر عاما ، و حاولت من خلالها أن أقدم للبلدة خدمات كثيرة و كان أهمها إعادة الطريق العام إلى البلدة بعد أن كان يبعد عنها مسافة 2 كيلومتر . ثم افتتحت محطة بنزين على الطريق العام (دمشق – حمص) ، و بعدها اشتريت مجموعة من السيارات و أجرتها لسائقين يعملون في مدينة دمشق .

 

* ذكرت أنك سافرت إلى الأرجنتين عندما كنت في الثالثة والعشرين من عمرك، فهل كان لك نشاط عام هناك؟

– نعم، فقد أسست في قرطبة (الجمعية الإسلامية)، وكان رئيسها الفخري شكيب أرسلان رحمه الله، وكان رئيسها الفعلي أحمد إبراهيم صالح من قرية (الفيكة) في لبنان، وكنت أمين الجمعية لأنني كنت أجيد الكتابة بالعربية.

 

* وهل مرت بك في المهجر أحداث هامة ما زلت تذكرها؟

– في طريق العودة إلى الوطن كنت مع أسرتي في سفينة فرنسية اسمها (شامبليون)، وكانت سوريا لا تزال تحت الاستعمار الفرنسي، وكنا نخترق المحيط الأطلسي مقتربين من جبل طارق، فكتبت خطاباً وحفظته للحظة المناسبة، وحين وصلنا إلى جبل طارق صعدت على ظهر السفينة وصرخت بأعلى صوتي: “إلي يا أبناء العرب إلي” ثلاث مرات، فتجمهروا حولي، فخاطبتهم قائلاً: “لقد كنتم في بلاد مستقلة يتحقق فيها العدل والمساواة.. والعزة والكرامة.. واليوم تعودون إلى بلادكم المستعمرة.. وفيها الظلم والذل والهوان.. وعندما تنظرون إلى هذا الجبل لا تنسوا آثار أقدام أجدادكم على الصخور يوم فتحوا الأندلس.. وبقوا فيها ثمانية قرون.. وما أخرجهم منها إلا الفرقة والخلاف.. عودوا إلى بلادكم.. وانشروا في شعوبكم الوعي.. وانصحوهم بالتزام الوحدة والتآلف حتى نعود إلى قوتنا وعزتنا.. وحتى نتخلص من الاستعمار الفرنسي…”.. وقد علم القائد الفرنسي بكلامي وأنني تعرضت لفرنسا وأنجلترا، فجاء يطلب الخطاب المكتوب، ولكن أحد الركاب السوريين من مدينة حماء أسرع وأخذ الخطاب ومزقه وألقاه في البحر، كما أن جموع العرب التفت حولي لتحميني، وهكذا مرت الحادثة بسلام.

 

* أصبت بداء السل ، وتعافيت منه ، و كان للغذاء كما سمعنا دورا في ذلك هل لك أن تحدثنا عن هذا الأمر ؟

– بعد عودتي من الأرجنتين أصبت بداء السل سنة 1938 م ، و جلست في بلدة (حمّانا) في لبنان مدة سنتين في مستشفى ألماني وكان فيها طبيب ألماني مشهور اسمه (نُخُّو) و قد استأصل الطبيب رئتي اليمنى ، و عدت إلى بلدتي يائسا حزينا ، لا أدري لأية سويعة عمري بعد أن أقر الأطباء جميعهم أن شفائي مستحيل .

 

* و كيف كان الشفاء رغم ما قاله الأطباء؟

– نقلت إلى تل قرب مزرعة (عين البيضاء) ذات المياه الكلسية ، و أقمت بقربها مدة 200 يوم في بيت من الشعر ، و كنت طريح الفراش ، غير قادر على الحركة ، ساعدني ابن عمي في السباحة في المياه الكلسية كل يوم تقريبا ، و هو عبد الحميد الحجي -رحمه الله- الذي كان (ناطورا) للمزرعة ، إضافة إلى أن المنطقة تتمتع بهوائها اللطيف الجاف الخالي من الرطوبة ، و الأهم من هذا و ذاك أنني كنت أعتمد في غذائي على شرب حليب الماعز ، و على ما يصطاده ابن عمي من لحم طيور القطا المنتشرة بكثرة في تلك المنطقة ، و طبعا في البداية لم أستطع أن أتناول الكثير منه ، ففي اليوم الأول تناولت قطعة صغيرة ، ورويدا رويدا استطعت أن أزيد كمية من طعامي ، إلى أن وصلت إلى أربعة أو خمسة طيور في اليوم الواحد .

وقد قال الأطباء فيما بعد أن لحم القطا ساعد في ترميم رئتي ، مما ساعد على تماثلي للشفاء ، بعد أن قرروا جميعهم أنني سأموت حتما ، و طلبوا مني أن أعود إلى بلدي لأموت على فراشي ، لكنني -وبعون من الله سبحانه وتعالى- لازلت أعيش إلى الآن و أنجبت أولادا ، و أنا أعيش الآن بثلثي الرئة اليسرى ، و الأطباء الذين عالجوني فارقوا الحياة و أنا الآن أذكرهم ومنهم الطبيب (نُخُّو) الذي أرسل رسالة بعد مغادرة المستشفى بعدة سنين و هو لا يدري : أأنا حي أم ميت ؟ ولكن يقول في رسالته : يا فلان .. إذا كنت على قيد الحياة فأجبني على الأسئلة ، و الأسئلة عبارة عن (استبانة) يسأل فيها عن نشاطي و طعامي وإنجابي للأولاد.. وغير ذلك.. وقد أجبته على ذلك.. و قد بلغني بعد ذلك أن هذا الطبيب قُتِل ظلما.. فقد أطلق عليه الرصاص أحد المرضى اليائسين.

 

*علمت بأنك دخلت أيضا في غيبوبة مدة شهر كامل في حادثة وقعت معك في حمام البلدة ، هل لك أن تحدثنا عن هذا الأمر أيضا ؟

– نعم كنت أستحم في حمام أثري قديم في البلدة مع مجموعة من الرجال ، زلت قدمي ووقعت على البلاط الحار فوق بيت النار ، فجاؤوا إلي راكضين فوجدوني مغمى علي ، و حاولي إعادتي إلى حالة الوعي لكنهم خابوا ، و عرضوني على طبيب من خارج البلدة ، لكنني أُصبت بِسُبات دائم ، و قالوا بأنه لا أمل لي بالحياة ، فحملوني و عادوا بي إلى البيت ، و استمرت الغيبوبة شهرا كاملا ، لكن كتب الله لي الشفاء ، و استيقظت بعد شهر و طلبت من أسرتي أن يحضروا لي الطعام و عدت إلى حالة الوعي الكامل ، وهذا طبعا بأمر من الله سبحانه و تعالى ، و بسبب بنية جسمي القوية .

 

* هل اتبعت في مسيرة حياتك نظاماً غذائياً معيناً ؟

– لا.. أبدا.. أنا أتناول كل ما تطيب له نفسي ، و ليس لدي أية وجبة أو حمية خاصة ، لكن الهواء الجاف في منطقتنا الجبلية إضافة إلى البنية القوية التي أتمتع بها ساعداني على الاستمرار في الحياة وبثلثي رئة، و طبعا أنا لم أُدخِّن في حياتي ، و لا أجهد نفسي في أعمال متعبة، أقوم فقط بما أستطيع القيام به، و الآن ومنذ ثلاث سنوات أُصِبْتُ بداء في المفاصل ، و لا أستطيع الحركة من السرير ، و يقول الأطباء أنه نتيجة كبر العمر ،و لكن ولله الحمد من يراني لا يصدق أن عمري تجاوز المائة بسنتين ، فأنا إلى الآن لازالت ذاكرتي جيدة ، و احفظ الشعر و الأحداث التي مرت خلال الأعوام التي عشتها.

 

* عشت حياة مديدة ، شهدت فيها أحداث هامة مرت على البلاد السورية فماذا تختزن في ذاكرتك عن مرحلة الحكم العثماني التي عاشتها سورية ؟

– في بداية حياتي كانت بلادنا لا تزال تحت الحكم العثماني و الحكم العثماني في أواخره تحول من نظام الخلافة الإسلامية إلى نظام القومية التركية و ذلك عندما سيطر ( الاتحاديون ) على الحكم ، وكانت الأوضاع العامة مؤسفة للغاية ، فالاستقرار الموجود الآن لم يكن موجودا في ذلك الزمن، إذ كانت عصابات البدو تغير على زرعنا و مواشينا و بيوتنا و تنهبها جميعا ، و تقطع علينا الطرقات ، و أذكر في إحدى الأعوام عانينا من الجوع لدرجة أننا لم نلق طعاما لنأكله، فاضطررنا أن نأكل من عشب الأرض، ومن السنابل التي لم تنضج بعد .

إضافة إلى أن الحكم الاتحادي التركي القائم على العنصرية التركية الطورانية كرس حالة الجهل و التخلف بين عامة الناس ، و كان يفرض لغته و ثقافته بالإكراه ، و يعنى بإجادة اللغة التركية قبل كل شيء ، هذا إلى جانب أن التعليم لم يكن شائعا و المدارس المعدودة و قف على أبناء الأعيان الموسرين فكان معظم الناس يرسفون في أغلال الجهل و يكتفون بما تعلموه على أيدي المشايخ في الكتاتيب من مبادئ اللغة العربية و تلاوة القرآن الكريم.

و لكن أنا بقيت ثلاث سنوات أتعلم اللغة التركية إلى أن جاءنا معلم اسمه ( عبدو حمدي ) و حرضنا على التحدث باللغة العربية ، و عدم الرضوخ للضباط الأتراك الذين كانوا يضربوننا في حال رفضنا تعلم اللغة التركية ، و طلب منا أن نتشجع و نقاومهم .

ومن ثم بدأت حركة اليقظة العربية في سورية منذ بدأت البرجوازية تتعلم وتشكل طبقة جديدة، وبدأ التكوين الإجتماعي ينقلب انقلابا جذريا . إضافة إلى الإرساليات الأجنبية التي كانت نافعة للبلاد من الناحية الثقافية و العلمية بما تبثه من روح تقدمية وعلمية وإن كانت تضر .. لسعيها إلى تغريب المسلمين.

 

* حضرت موقعة ميسلون، هل لك أن تحدثنا عن ما شاهدته ؟

– موقعة ميسلون كان لها الأثر الأكبر في نفسي و لازالت ذكراها محفورة في مخيلتي و لم أكن جنديا في الجيش النظامي ..و لكن كنت من المتطوعين ، ففي صباح 24 تموز قمنا باكرا و أمرنا أن نتوجه مع ضابطنا إلى الجبهة ، و هناك سلمونا الذخيرة وسرنا و كلنا حماسة وأمل بأن يوفقنا الله لدحر الفرنسيين المستعمرين المعتدين ، و بينما نحن سائرون سمعنا في الطريق صوت هدير الطائرات فوق المرتفعات وصوت إلقائها القنابل على الذين كانوا مجتمعين في تلك التلال ، و بعد قليل بدأت المدفعية الفرنسية تصب نيرانها على جبهتنا ، و مع ذلك تابعنا مسيرنا حتى وصلنا إلى هضبة مرتفعة في الخط الثاني من الجبهة ، و كان جميعنا من صغار السن ما بين الثامنة عشرة والعشرين ، و ما كنا مُدَرَّبين ، وكانت القنابل تتساقط حولنا ، و تلفتنا حولنا ، و إذ بنا نرى جماهير كثيرة من المتطوعين الذين قُتِل منهم الكثير على التلال عائدين بصورة فوضى لا مثيل لها ، و مع ذلك تريثنا لعل أحداً يهدينا إلى ما يجب عمله ، تلا ذلك تراجع فلول الجيش النظامي .

عندها قال الضابط : يا أبنائي تهيئوا للهجوم فقد انهزم الخيالة ، و تهيأنا للهجوم و نزلنا إلى الوادي وهجمنا ، لكن المشاة انهزموا ، ثم سحب يوسف العظمة سيفه وقال :”أنا فداؤك يا سورية “، و قد جاء إلى ميسلون ، و هو على خلاف مع الملك فيصل ، و جاءته شظية في رأسه و استشهد عند (رأس القرن) ، و تم نقل جثمانه إلى ميسلون ودفن هناك ، و أمرنا بالتراجع ، عندها قررنا الانسحاب و العودة إلى دمشق مشيا على الأقدام أسوة بغيرنا ، و اتخذنا طريق الخط الحديدي المظلل بالأشجار خوفا من الطائرات التي كانت تضرب المهزومين على طريق ميسلون دمشق المكشوفة و من المؤسف أننا خلال عودتنا على طريق السكة كان يعترضنا القرويون بالسلاح ، و لولا أن عددنا كان يقارب الأربعين نفرا لكانوا سلبونا ثيابنا و سلاحنا كما فعلوا بالذين سبقونا ، و تابعنا المسير حتى و صلنا بعد العشاء إلى دورنا ، و في اليوم التالي دخل الفرنسيون دمشق قبل الظهر و عسكروا في مرجة الحشيش الأخضر “المعرض اليوم”، وهكذا بدأت فترة الاستعمار الفرنسي الذي كان أسوأ من الاحتلال التركي.

 

* ما الحكمة التي استقيتها خلال هذه السنوات من حياتك ؟

– من خلال سفري إلى الأرجنتين اكتشفت عوالم جديدة ، و تعلمت هنالك التسامح و الحياة المشتركة التي تتسم بالطيبة و مراعاة الآخرين ، إذ لا فرق عندهم بين مواطن وأجنبي و هذا يتفق مع مبادئ الإسلام التي تدعوا إلى التسامح، و هذا ما حاولت أن أعيشه في وطني دون أن أتخلى عن مبادئ ديني.

 
تعليق واحد

Posted by في 16 أكتوبر 2016 بوصة Uncategorized