RSS

الضحية الأخيرة

23 جوان

مأساة فناء شعب

(قصة كتبتها قبل حوالي عشرين عاماً ووحدتها بالصدفة في كرتون قديم 🙂 )

 

أخذ يجري بأسرع ما يستطيع.. وهو يلهث ويلهث.. إنهم وراءه.. يريدون قتله.. وهو الأخير.. الأخير.. قتلوا أهله وعشيرته.. رآهم كلهم بعينه وقد أصبحوا جثثاً هامدة.. مذبحة رهيبة.. سرت في جسده قشعريرة لذكرى ذلك المنظر المريع وهو يسارع بالاختباء خلف أحد الجدران..

آه.. ها هو ذا أحدهم.. يحمل في يده ذلك السلاح الجلدي الرهيب.. إنه لا يزال يذكر ما يفعله ذلك السلاح.. أحس بغصة في حلقه.. تذكر عندما كان يمشي هو وحبيبته تحت ضوء القمر.. في تلك الليلة الشاعرية.. أخذ يتأملها ويتأمل عينيها الساحرتين.. حوار جميل دار بين عيونهما.. احتوى راحتها بين كفيه.. تمنى من كل قلبه ألا تنتهي تلك اللحظة السعيدة.. أغمض عينيه وانحنى ليطبع على وجنتها الرقيقة المتوردة قبلة أودعها كل مشاعره.. وفجأة.. سمع حشرجة مخيفة.. أحس بسائل لزج يلطخ وجهه.. فتح عينيه بسرعة وهاله ما رأى.. لقد أصيبت حبيبته بإحدى تلك القذائف.. تناثرت دماؤها في كل مكان.. لم يستطع تمييز شيء من ملامحها إلا عيناً مفتوحة ناتئة تعلن أن روح حبيبته قد انتقلت إلى بارئها.. صرخ باسم حبيبته صرخة رددتها الجدران القريبة.. انتبه إلى القاتل وهو يهم بإطلاق قذيفة أخرى نحوه.. سارع بالفرار وقلبه يتفطر حزناً عليها.. أقسم يومها أن ينتقم من أولئك القتلة شر انتقام..

دارت تلك الخواطر في ذهنه بسرعة.. مسح دمعة تجرأت على الخروج من عينه وهو لا يزال يراقب ذلك الوغد.. إنه بالتأكيد يبحث عنه.. عن الأخير.. إنه لا يزال يذكر عندما اقتحموا قريته.. حسبهم في البداية أناساً مسالمين ولم يعبأ بهم.. ولكنه صحا في ذل اليوم على صرخة رهيبة بجوار داره.. خرج ليستطلع الأمر.. وجد أخاه الأكبر وقد أصبح جثة هامدة.. لقد قتلوه.. وأعلنوا بذلك الحرب عليهم.. وكانت تلك بداية النهاية.. نهاية أهله وأهل قريته.. أصبح يخرج من بيته كل يوم ليجد جثة أو عدة جثث.. هذا عمه.. وذاك جاره.. وهؤلاء بنات جاره.. وتلك طفلة في عمر الزهور تناثرت أحشاؤها في كل مكان.. لعن في سره أولئك الغادرين الذين لا توجد في قلوبهم رحمة ولا شفقة.. وهو قد أصبح منذ مقتل حبيبته قبل يومين آخر من تبقى في تلك القرية.. وهم الآن يبحثون عنه.. عن الأخير.. وحامل السلاح الذي يراه الآن من مخبئه أحدهم.. كان أشد ما يحنقه عدم استطاعته الوفاء بوعده بالانتقام والذي ألقاه أمام جثة حبيبته.. حبيبته التي كانت تملك أرق قلب في الدنيا كلها..

رأى بعينيه عدوه يقترب من مكمنه.. لو التفت يميناً لرآه.. تسارعت دقات قلبه.. لا بد أن يغير مخبأه بسرعة.. تسلل بخفة.. أخذ يمشي على أطراف أصابعه محاذراً أن يصدر أي صوت ينبه عن مكانه.. وفجأة.. سمع تلك الصرخة.. صرخة الانتصار.. وقف شعره من الخوف.. لقد رآه.. لا.. ليس هو من أطلق الصرخة.. بل وغد آخر لم ينتبه إليه.. شد انتباهه ذلك السلاح العجيب الذي يحمله ذلك الوغد الآخر.. لم يضيع وقته بالتفكير.. سارع بالهروب.. رأى بطرف عينه حامل السلاح الجلدي يصوب نحوه سلاحه.. أخذ يجري بكل ما يستطيع.. قذيفة جلدية وقعت بالقرب منه.. كادت أذناه أن تنفجرا لهول صوتها.. حمد الله في سره أنها أخطأته.. جرى وجرى.. اشتد لهاثه.. توقف قليلاً ليسترد أنفاسه.. وإذا بقذيفة أخرى تحط بجانبه.. طار بفعل قوة القذيفة ثم وقع وتدحرج على الأرض.. سارع بالنهوض والهروب وهو يحس بسائل دافئ لزج يصبغ يده.. لم بسرعة ذينك الإصبعين المهمشين والدم ينساب منهما.. عض على شفتيه وهو يحس بأن نهايته قد اقتربت..

لمعت عيناه وهو يرى ذلك المخبأ الآخر.. أدرك أنه إذا استطاع الوصول إليه فسوف ينجو من هذين الوغدين.. أسرع وأسرع.. تعثر بحجر.. تقلب قليلاً ثم وقف وأخذ يكمل جريه.. اقترب المخبأ أكثر وأكثر.. ولكن.. لماذا توقفت القذائف؟.. أحس أن في الأمر خدعة.. لم يفكر كثيراً في ذلك.. واصل جريه إلى المخبأ.. خطوات وسيكون في أمان.. صوت صفير حاد يشق الهواء.. التفت.. رأى جسماً معدنياً غريباً يطير بسرعة شديدة متجهاً إليه.. بل إلى رأسه.. لم يسعفه الوقت لمعرفة ماهيته.. وكان آخر ما سمعه صوت تهشم عظام جمجمته.. وهو على الأرض مضرجاً بدمائه.. وهو يدرك أنه الأخير..

*   *   *   *   *   *

صرخ (زيد) صرخة انتصار.. والتفت إلى أخيه (عمرو) وقال في ظفر: ألم أقل لك أن الساكتون(1) أشد فعالية من الزبيرية(2)؟!..

تطلع (عمرو) مندهشاً إلى ما يحمله أخوه.. أدار نظره إلى حيث ذلك (الظاطور) (3) الواقع على الأرض.. إلى رأسه المنشطر.. جمجمته المحطمة.. مخه الذي تناثر حواليه.. وقعت من يده (الزبيرية) التي كان يهم بإطلاقها.. وهو يردد في نفسه: لقد أثبت (الساكتون) أنه الأشد فعالية..

وأنه الأقوى..

–  تمت  –

 

 

(1)  الساكتون: اسم يطلقه أهل نجد على بندقية الصيد الخفيفة.

(2)  الزبيرية: حذاء جلدي تشتهر به منطقة نجد.

(3)  الظاطور: اسم شعبي لــ (الوزغ).

 
أضف تعليق

Posted by في 23 جوان 2018 بوصة Uncategorized

 

أضف تعليق