قي إحدى زياراتنا إلى طبيب ولدي، سألت الطبيب لماذا ابني يمرض كثيراً.. لماذا أصبح يصاب بالإنفلونزا والتهاب اللوز والرشح عدة مرات في الموسم الواحد.. بينما نحن في صغرنا كنا نادراً ما نعرف هذه الأمراض؟..
أجابني: السبب واضح.. لأن عالم أطفالنا اليوم أصبح نظيفاً أكثر من اللازم!
* * *
عندما كنا صغاراً.. كنا نقضي أغلب وقتنا خارج المنزل..
كنا حينها نعيش في بيئات مختلفة، بيئات صحراوية، بيئات ريفية، وقروية، مليئة بالأشجار والنباتات والحيوانات والحشرات، وحتى في المدن كانت البيوت شعبية في أغلبها، تجد باحة للمنزل فيها أشجار أو نخل، وغالباً ما تتم تربية بعض الحيوانات أو الدواجن داخل المنزل.
كنا نلعب بكل شيء.. بالتراب.. بالطين.. بكل شيء.. نركض نلهو وأيادينا تمسك بكل شيء.. ونتنفس بكل حرية.. نتسلق الأشجار.. نستكشف الكائنات من حولنا من حشرات وحيوانات.. كان جزء من تسليتنا أن نلعب مع هذه الكائنات.. نحملها ونداعبها ونرميها على بعضنا البعض ونضعها في ملابس زملائنا في مقالب بريئة..
وحينما كنا نعود للمنزل.. لم يكن غسيل الأيدي عند الأكل أمراً ملحاً.. في الغالب كنا نغسل أيادينا حينما يكون هناك شيء ظاهر عليها فقط.. كالطين والقاذورات..
* * *
هذا النمط من الحياة أصبح يعد فلم رعب هذه الأيام!
أبناؤنا اليوم دوماً تحت المراقبة.. يقضون أغلب وقتهم في المنزل، في المدن في فلل أو شقق، في بيئة نظيفة دائماً.. وحينما يخرجون مع أهاليهم إلى الحديقة لا يسمعون إلا: “لا تلمس هذه.. إنها قذرة.. لا تلعب بالتراب.. إنه مليء بالأوساخ.. ابتعد عن تلك القطة.. تبدو مقرفة..”..
وحينما يأتي وقت الطعام.. فعليهم أن يغسلوا أياديهم جيداً.. ثم تخرج الأم من حقيبتها علبة المعقم السائل، أو المناديل المعقمة.. لتمسح بها يدي الطفل جيداً قبل الأكل.. (شكراً لإنفلونزا الخنازير!)..
* * *
ترى.. هل هذا حقاً ما نريده لأبنائنا؟
هل نريد أن نمنعهم تماماً من التعرض لأي بكتيريا وهم صغار.. لكيلاً يصابون بالمرض وهم في رعايتنا.. ثم ينشؤون ويكبرون ليكونوا أصحاب مناعة ضعيفة.. وأجساد هشة؟!
* * *
يقول بعض الخبراء بأن جهاز المناعة في الجسم مثله مثل بقية الأجهزة.. بحاجة إلى التدريب والتمرين لتصبح أقوى..
تماماً مثل العضلات، من يهتم بها ويدربها تكون عضلاته أقوى وأكثر مرونة، ومن يهملها تكون عضلاته هشة وضعيفة..
وتمرين جهاز المناعة ليس صعباً.. ولا يحتاج إلى برامج تدريبية مكلفة ومرهقة..
البرنامج التدريبي لمناعة طفلك يتلخص حسب كلام الخبراء في نقطتين: أن ندعهم يلعبون بالرمل والطين، وألا نسرف في استخدام المطهرات معهم.
لماذا الطين؟ لأنه يحوي عدداً كبيراً من الميكروبات التي قد لا توجد في بيئات أخرى، هذه الميكروبات تساعد في بناء مناعة الطفل ضد الكثير من الأمراض البسيطة المنتشرة حولنا، خصوصاً أمراض الصدر والإنفلونزا والحساسية.
لنأخذهم كثيراً للحدائق، وندعهم يلعبون بالرمل والطين والتراب كما يشاؤون، لندعهم يختلطون بالأطفال الآخرين بشكل مكثف، لندعهم يستخدمون الألعاب في الأماكن العامة..
وحينما يعودون للمنزل، غسيل اليدين العادي قد يكون كافياً.. بل إن بعض هؤلاء الخبراء ينصحون بأن نتجاوز عن غسل الأطفال لأياديهم أحياناً قبل الأكل.
كما علينا ألا نقلق كثيراً من نظافة المنزل، ليس من الضروري أن نقوم بتعقيم كل زاوية من زوايا البيت بشكل مستمر، علينا بالطبع أن نهتم بنظافة بيوتنا، ولكن لندعها طبيعية قدر الإمكان بدون الاستخدام الزائد للمنظفات والمعقمات.
* * *
قراراتنا حالياً هي ما تشكل مستقبل أبنائنا..
وكما أن من حق أبنائنا علينا أن نرعاهم الرعاية الصحيحة.. ونوفر لهم التعليم المناسب.. والتغذية السليمة..
فإن من حقوقهم علينا أيضاً أن نسعى لأن يكونوا دوماً بصحة وحيوية..
صغاراً.. وعندما يكبرون..
Azza Barakat
10 نوفمبر 2011 at 1:51 ص
أنا ضد عدم تعقيم أدوات الطفل ويديه في أول سنتين من عمره على الأقل. لأن أول سنتين هي مرحلة بناء المناعة. وإذا لم تبنى هذه المناعة بشكل قوي وتعرض الجسم للضعف المستمر في هذه المرحلة الحاسمة، سيعاني الإنسان من الأمراض وضعف المناعة في كل سنوات عمره.
كما أنني أجد أن كثرة التعقيم في حياتنا له ما يبرره (لا أقصد الإسراف في التعقيم). فالبيئة أيام زمان لم تكن بالتلوث التي هي عليه اليوم. فتلوث الهواء يضعف الجسم كثيراً ويفقده جزءاً من قوة مناعته، والماء والغذاء لم يعودا نظيفين كما كانا في أيام طفولتنا. هذا عدا عن الأمراض التي اجتاحت معظم دول العالم بسبب انفتاحها تجارياً وسياحياً على بعضها البعض.
أنا أعيش في دمشق، ولكني من وقت لآخر أزور مدينة إدلب التي ولد وعاش فيها أبي وهي مدينة صغيرة لها طابع ريفي أكثر من مدني وتحيط بها أراض مزروعة بأشجار الزيتون. عندما أكون في دمشق، أجد نفسي أغسل يدي مرات عديدة في اليوم وأشعر بضعف عام ونقص في الحيوية. لكن ما إن أزور مدينة إدلب، أجد نفسي أكثر نشاطاً بكثير وأتنفس بعمق بسبب الهواء النقي المنعش، وإن أمسكت بشجرة زيتون أو بالتراب أو حتى ببعض الحيوانات الأليفة لا أشعر بالحاجة لغسل يدي إلا قليلاً جداً. بل على العكس أحياناً نقوم بتنظيف أيدينا بالتراب عندما لا يتوفر الماء، ولم يحدث لي أن مرضت من فعل ذلك سواء في طفولتي أو في الوقت الحاضر.
أتفق معك في أنه يجب أن يتعرض الإنسان للجراثيم من وقت لآخر لكي يتمكن من مقاومة الأمراض بشكل أقوى. وأنا ضد الإسراف في أي شيء. فالإسراف في النظافة يؤذي مثلما يؤذي انعدامها. ولكن ما أردت قوله أن كثرة الأمراض في عصرنا خاصة في المدن له أسباب عديدة ليس فقط الإسراف في التعقيم.
أعتذر على الإطالة وشكراً لموضوعك الشيق
هشام الفياض
10 نوفمبر 2011 at 2:27 ص
أتفق معك أستاذي وزميل دراستي الجامعية سابقاً أبو فيصل، والحقيقة أنا قنوع أكثر منك؛ لأنني أطالب الآباء بأن يدعوا أطفالهم “يلعبون”، فقط مجرد اللعب، الذي أصبح عند الكثيرين اليوم نوع من الشقاوة والمشاغبة والتمرد، وأصبح التزام الهدوء والجلوس الساكن وعدم الكلام هو الأدب والأخلاق بل والذكاء النابغ! نعم، بل دعه يلعب ويتسخ ويتعلم بالمحاولة والخطأ والاستكشاف البريء. تحياتي لطرحك وتخصصك أستاذي.
Wesam
10 نوفمبر 2011 at 2:32 ص
لذلك الشخص الريفي يمتلك مناعه اقوى في مقاومة الامراض !
هذه المعلومة اكتسبتها عن تجربه شخصية في قرية يعيش الناس فيها ببيوت من طين!..
بالنسبه للعنوان استفزني حاضر هنخليهم يوسخو بس مين اللي راح ينظف ست آلاف مرة من وراهم
حمد
10 نوفمبر 2011 at 2:47 ص
استمتعت واستفدت من موضوعك الجميل
أديبة
10 نوفمبر 2011 at 5:16 ص
ليست المسألة مسألة زمن، بل هي مسألة أشخاص بعقدة النظافة!
أحد أقربائي رجل كبير و له أبناء، كان في صغره يمرض كثيراً، و حين سألت أمه الطبيب عن السبب، قال لها:”زيادة النظافة!!”
أؤمن بشدة بما قلت، لا بأس في أن يتسخ الأطفال، لا بأس في أن يأكلوا مما يُباع في الشارع، و سنحممهم فيما بعد، عاش آباؤنا على “البطاطس المقلية و التوت المثلج في كيس النايلون” ، و هم أفضل صحةً منا، فكيف قد يكون نظام حياتنا الجديد أفضل ؟!
Fhkh
10 نوفمبر 2011 at 3:42 م
كلام صحيح
jehad mohammed
10 نوفمبر 2011 at 4:01 م
ان الأطفال لا يرون الدنيا بعقولهم وأفهامهم.. إنما يدركونها باعينهم وحركاتهم وبما يشاهدونه من حولهم ومخالطتهم وملامستهم لما حولهم والقضية في الاخير ( لا افراط ولا تفريط )….”
Maha abdulmatloub
13 نوفمبر 2011 at 8:26 ص
جزاك الله كل خير أخي فهد التدوينات التي تكتبها حول الطفل مفيدة ومهمة
أبو إياس
17 نوفمبر 2011 at 2:10 م
مرة سمعت أو قرأت أن اﻷطفال الذين يختلطون بباقي اﻷطفال ويلتقطون بعض اﻷمراض كالزُكام أقل إصابة بمرض اللوكيميا.
سوف أدعو زوجتي لقراءة هذا الموضوع المهم
9ahra
2 جانفي 2015 at 10:35 ص
إستمتعت كثيرا بقراءة ما كتبت كما عدت الى ذلك الوقت الجميل الذي كنار نعيشه واليوم فعلا أجد نفسي أمنعهم بما أستمتعت به … فعلا الخوف الزائد تدمير لشخصية الطفل وانتهاك حقه في العيش بشكل طبيعي …