RSS

براشيم الوداع!

08 فيفري

هل أنت مستعد لأن تموت؟

(هذا الموضوع ليس موعظة دينية.. أنا لست شيخاً 🙂 … بل تفكير عملي..)

 

تخيل معي لو أنه، ولأي سبب من الأسباب، أبلغوك الآن، فجأة، بأن أمامك دقيقتان وستموت..

دقيقتان.. وستنقطع فيها عن هذا العالم.. تنتهي حياتك.. وتنتهي صلتك بكل من حولك..

ترى.. ماذا ستفعل في هاتين الدقيقتين؟

توقف الآن عن القراءة.. وتخيل فعلاً أنك في هذا الموقف!.. دقيقتان.. أمامك دقيقتان!..

أنا أتحدث بشكل جدي.. أمامك دقيقتان وستموت!

ما هو أول شيء ستفعله؟!

 

نتحدث كثيراً في مجالسنا.. وفي رسائل الواتس اب التي ننسخها ونرسلها للكثيرين دون حتى أن نقرأها بالكامل.. وفي خطب الجمعة.. وفي مجالس العزاء.. عن الموت.. والاستعداد للموت.. ونتعامل كلنا مع هذا الحديث ببرود وكأننا جاهزون للموت..

أو بالأصح.. وكأن الموت لن يأتينا الآن.. وسنكون جاهزين له حينما يأتي!

لدينا قناعة داخلية لا نصرح بها أن وقتنا لم يحن الآن!.. أليس كذلك؟

دعني أسألكم.. في آخر عشر وفيات تمت حولكم.. لأقارب أو معارف.. أو حتى لأشخاص معروفين في المجتمع.. مَن مِن هؤلاء كان يتوقع الموت؟ مَن مِنهم كان جاهزاً له حينما أتى؟

شخصياً.. في حياتي كلها.. لا أعرف أشخاصاً ماتوا وكانوا يتوقعون الموت إلا حوالي أقل من عشرة.. من ضمن مئات!..

وهؤلاء كانوا يتوقعون الموت لإصابتهم بأمراض خطيرة لا شفاء منها.. أشهرها السرطان..

أما البقية.. فكلهم.. بلا استثناء.. لم يكونوا يتوقعون قرب لحظتهم.. بما فيهم كبار السن!..

 

توفي والدي منذ حوالي شهر ونصف.. كانت وفاته صادمة لنا جميعاً.. لم نكن نتوقعها.. ولم يكن أحد يتوقعها.. ومررنا بلحظات عصيبة لا يدركها إلا من فقد أباه أو أمه.. أو شخص عزيز عليه ونادر الوجود..

والدي تجاوز الثمانين من العمر.. ولكن هذا لم يكن سبباً لأن نتوقع رحيله.. فمن يعرف والدي رحمه الله يعرف أنه يهتم كثيراً بصحته.. له نظام غذائي صارم لا يتجاوزه إلا نادراً.. ويحرص على المشي.. وحتى آخر عمره رحمه الله كان يسبقنا ويسبق أحفاده في المشي.. كان نشيطاً وعالي الهمة.. يدبر أموره بنفسه..

أبو والدي، جدي رحمه الله كان قد توفي وقد تجاوز المئة عام، وتوفي بحادث وليس بسبب كبر السن والأمراض التي تصاحبه..

كل هذا جعلنا جميعاً لا نتوقع وفاة والدي.. بالتأكيد بقي له عشر أو عشرين عاما!.. هكذا كانت تحدثنا أنفسنا..

وأعتقد.. والله أعلم.. أنه هو نفسه لم يكن يتوقع هذه اللحظة..

 

بعد وفاة والدي رحمه الله لم نجد له وصية.. وهذا الأمر غريب نوعاً ما لمن يعرف شخصية والدي الحريصة على ترتيب كل التفاصيل.. الذي عودنا منذ الصغر ألا نخرج من المنزل إلا على وضوء تحسباً لأن يدركنا وقت الصلاة.. وأن يكون في جيبنا دوماً مفتاح احتياط للسيارة في حال أقفلنا الباب على مفتاحها بالغلط.. وأن نقوم دوماً بتصوير جميع أوراقنا الرسيمة وحفظها في ملف تحسباً لضياعها.. وأن نحل واجباتنا المدرسية حتى لو لم نكن متأكدين هل هو واجب أم لا..

كان أبي حريصاً على الاحتياط والترتيب المسبق لكل أمور حياته..

ومع هذا.. لم نجد له وصية..

 

بعد وفاته.. وقعنا نحن أبناؤه وبناته في حيرة..

ترى هل لأحد من الناس حق على والدي؟

نحن يغلب على ظننا -بحكم معرفتنا بأبينا- أنه لم يقع في الدَّين.. فهو يكره الدين ويرى أنه مذلة للرجل.. وعاش رحمه الله عيشة كفاف مستورة..

ولكن أبي كان له باع في أعمال الخير.. كان يتولى شؤون العديد من الأسر المحتاجة من الأقارب والمعارف وأهالي بلدتنا.. وبالتالي كان يتلقى تبرعات وأمانات ممن يثقون به ليوصلها لهم..

ترى هل عنده أمانات حالياً؟ هل توجد في ذمته أموال لآخرين؟

لم يترك لنا رحمه الله أي معلومة جاهزة!

وأحتاج الموضوع بحثاً دقيقاً وتحليلاً للحركة المالية في حساباته، والنقد المتوفر عنده.. وسؤال من نعرفهم ممن يوصلون له الأمانات.. حتى أستطعنا حصر الأمانات بعد أسابيع.. لإيصالها إلى أصحابها..

 

وكانت هناك تفاصيل أخرى، تمنينا لو أنه أبلغنا بها قبل وفاته.. مثل كلمة سر جهاز الكمبيوتر الذي يحتفظ فيه بإرثه الشعري.. ومن هي بالضبط الأسر المحتاجة التي يتولاها، وكيف.. وغير ذلك..

 

ما حصل.. جعلني أفكر كثيراً..

والدي دخل لينام.. وتفكيره مليء بالآمال والألام والأحلام.. لتكون هذه نومته الأخيرة..

وبعد وفاة والدي تزايدت أخبار الوفيات من حولنا.. في أيام العزاء توفيت والدة صديق، ووالد صديق آخر.. وابن عم صديق ثالث..

وإلى الآن لا يمر يوم أو يومان إلا وتأتي أخبار وفاة أحدهم.. بعضهم ممن عزانا في والدنا.. رحمهم الله جميعاً..

ما الذي يمنع أن أدخل الآن لأنام وتكون آخر نومة لي؟

الاحتمالية واردة جداً..

ستقولون جميعاً: لا.. ليس الآن.. لم يحن وقتك بعد.. أمامك عمر طويل لتعيشه..

ولكن كل هؤلاء الذين ماتوا جميعاً كانوا يسمعون هذا الكلام.. ويقولونه لغيرهم..

إذن.. لنفكر بواقعية..

الموت حق.. وقد يأتيك في أي لحظة..

فلو تخيلت أنك ستموت الآن.. وسينقطع اتصالك تماماً بعالم الأحياء.. ما هي الرسائل التي تتمنى أن توصلها لنا؟

ما هي الرسائل.. أو الأخبار.. أو المعلومات التي تتمنى أن توصلها لزوجتك وأولادك الذين يلتفون الآن ويبكون حولك؟

 

بالنسبة لي.. وضعت حلاً.. وأسميته: براشيم الوداع!

البراشيم.. لمن لا يعرفها.. هي تلك الأوراق الصغيرة التي يستخدمها الطلاب للغش في الاختبارات.. يكتبون عليها ما يستطيعون من معلومات من الكتاب.. ويتفنون في صغر حجمها حتى يتمكنون من إدخالها إلى قاعة الاختبارات واستخدامها بخفية.. كما يمكنهم من تمريرها لبعضهم البعض..

وبراشيم الوداع.. هي مثل براشيم الاختبارات.. ورقة صغيرة.. يمكنك وضعها في محفظتك الشخصية.. بحيث لا تثقل عليك.. ويمكن لها أن تبقى بين بطاقاتك البنكية والثبوتية بدون أن يكون لها أي وجود يذكر..

وأن تضعها في محفظتك أمر مهم.. لأن المحفظة هي من أول الأغراض التي تفتح من أغراض الميت.. أما إن خبأت الورقة في مكان آخر كأحد أدراج غرفتك مثلاً فقد تضيع بدون أن ينتبه لها أحد.. كما أن وجودها في المحفظة يعطيها مصداقية عالية.. وأنها حديثة وليست قديمة..

أما ما تحويه هذه البراشيم.. فهي بكل بساطة كل المعلومات التي تهمك أن تصل لأهلك..

شخصياً.. فكرت بما يلي:

فكرت في أن أسجل في ورقة صغيرة من لهم حقوق علي.. ولا أعني بهذه الحقوق الديون فقط.. بل هي تشمل بالإضافة إلى الديون: الأمانات، التبرعات، وأيضاً الدفعات المالية لبعض المشاريع.. تخيل مثلاً أنك مسافر وأعطاك صديق مبلغاً من المال لتشتري له شيئاً.. هذه أمانة.. ويجب أن تسجل..

يمكنك أيضاً أن تضع قائمة بمن تطالبهم بحقوق.. حتى لا يضيع حق زوجتك وأولادك من بعدك..

فكرت في أن أضع قائمة بحساباتي البنكية.. في أي بنك.. وما هي أرقام الحسابات.. (تخيل أن تذهب عن هذا العالم ولديك رصيد في بنك ما تركته لأولادك.. ولكن لا أحد يعلم به.. وبالتالي يتجمد في البنك ولا أحد يسأل عنه!)

ويمكن للمعلومات في هذا السجل الصغير أن تزيد حسب كل شخص.. قد ترى أن تضع فيها كلمة سر جوالك مثلا.. أو كلمة سر كمبيوترك.. أو مثلا مكان وجود وصيتك.. قد تحوي بعض الأسرار المهمة والخطيرة التي لا تجرؤ على كشفها في حياتك كأن يكون لك زوجة وأولاد في مكان آخر لا أحد يعلم بهم!

وقد تضيف لهذه الورقة أيضاً قائمة بأسماء من ترى أنك أخطأت بحقهم ولم تكن لك الجرأة للاستسماح منهم.. على الأقل دع أهلك وأبناءك يقومون بذلك.. وكن على ثقة من أنهم سيفعلون المستحيل من أجلك بعد وفاتك.. حتى لو أن شخصاً حقيراً أعتدى عليك في حياتك قد تجد أبناءك يذهبون إليه بعد وفاتك ويطلبون منه أن يسامحك، لأنهم سيدركون حينها أنك في قبرك بحاجة إلى كل حسنة حتى ولو كانت من أشر الناس حولك..

وإن كانت هذه المعلومات كثيرة.. أو تراها سرية وتخشى أن تُعرف الآن.. فيمكنك أن تضعها على ملفات في هاتفك أو كمبيوترك.. بشرط أن تكتب أين هذه الملفات وكيفية الوصول إليها وكلمة السر في ورقة وتضعها في محفظتك.. ويمكنك أن تغير كلمة السر كل شهر وتقوم بتحديثها في الورقة لضمان مستوى أعلى من السرية..

 

لا تتهاونوا في الأمر.. طالما أن احتمال رحيلك عن الدنيا قائم في أي لحظة.. فقد تكون بعد قليل.. انزع الآن ورقة من أقرب دفتر إليك..

وابدأ في الكتابة..

 

 

 

 

 

 

 

 

 
أضف تعليق

Posted by في 8 فيفري 2017 بوصة مقالات

 

أضف تعليق